Duration 53:21

جدلية العزلة لـ أوكتافيو باث GB

Published 17 Mar 2023

يمثل الجنين، وهو وحيد في العالم المحيط به، حياةً خالصة، حياة في حالتها الخام، تدفقا جاهلا بذاته. حينما نولد، نقطع الصلات التي تربطنا بالحياة العمياء، التي عشناها في رحم الأم، حيث لا فاصل هناك بين الرغبة والإشباع. فإحساسنا بالحياة يعبر عنه كانفصال وقطيعة، كتيه وسقوط في بيئة معادية وغريبة. وبقدر ما ننمو، بقدر ما يتحول هذا الإحساس البدائي إلى شعور بالعزلة، وبعد ذلك إلى وعي: فنحن محكومون بالعيش في عزلة، لكننا محكومون أيضا بتجاوز عزلتنا واستعادة الصلات، التي كانت تربطنا بالحياة في ماض فردوسي. كل جهودنا تسعى إلى محو العزلة. هكذا يملك الإحساس بالعزلة دلالة مزدوجة: فمن جهة يدل على الوعي بالذات، ويدل من جهة أخرى على الرغبة في الخروج من الذات. إن العزلة، وهي شرط حياتنا، تبدو لنا كامتحان وتطهر، وفي نهايتها يختفي القلق والتيه. فالامتلاء والاجتماع، وهما راحة وسكينة وانسجام مع العالم، ينتظراننا في نهاية متاهة العزلة. إن اللغة الشعبية تعكس هذه الازدواجية، بمطابقتها بين العزلة والحزن. أحزان الحب هي أحزان عزلة، فالمشاركة والعزلة والرغبة في الحب تتعارض وتتكامل. وقدرة العزلة على الإنقاذ تكشف عن فكرة غامضة لكنها حية، فكرة الخطيئة: فالإنسان الوحيد هو الذي «هجره الله». العزلة عقوبة، أي إدانة وتطهر. إنها عقوبة، لكنها أيضا وعد بنهاية منفانا. وكل حياة هي حياة مسكونة بهذه الجدلية. الميلاد والموت تجربتان للعزلة: نولد في عزلة، ونموت في عزلة. لا شيء أكثر خطورة من هذا الغوص الأول في العزلة، الذي هو الميلاد، إلا هذا السقوط الآخر في المجهول، الذي هو الموت. إن تجربة الموت تتحول سريعا، إلى وعي بالموت. لا يؤمن الأطفال والرجال البدائيون بالموت، وبتعبير أفضل إنهم لا يدركون وجودها، على الرغم من أنها تعمل سراً بدواخلهم. ولم يكن اكتشافها متأخرا أبداً، بالنسبة للإنسان المتحضر، مادام كل شيء يحذرنا وينبهنا إلى أننا سنموت. إن حياتنا تعلم يومي للموت. إننا نُلقن كيف نموت أكثر مما نُلقن كيف نحيا. وإن ذلك ليلقن لنا بطريقة سيئة. تمضي حياتنا بين الميلاد والموت. حينما نطرد من رحم الأم، ونشرع في قفزة قلقة وخطيرة حقا، لا تنتهي إلا بسقوطنا في الموت. هل سيكون الموت عودة إلى هناك، إلى الحياة السابقة على الحياة؟ هل سيحيا الإنسان من جديد هذه الحياة السابقة على الميلاد، حيث يكف عن التعارض بين السكون والحركة، بين النهار والليل، بين الزمن والأبدية؟ هل سيكون الموت كفا نهائيا عن الكينونة؟ ربما يكون الموت هو الحياة الحقة؟ ربما يكون الميلاد موتا والموت ميلادا؟ إننا لا نعرف شيئا. وحتى إن كنا لا نعرف شيئا، فإن وجودنا كله يسعى إلى الفرار من هذه المتناقضات التي تمزقنا، ومادام كل شيء (الوعي بالذات، والزمن، والعقل، والعادات)، يطردنا من الحياة، فإن كل شيء يدفعنا كذلك إلى العودة، إلى النزول إلى الرحم الخلاق الذي انْتُشلنا منه. ونطلب من الحب ـ باعتباره رغبة، وحاجة إلى المشاركة، وحاجة إلى السقوط والموت، مثلما هو حاجة كذلك إلى الانبعاث ـ أن يمنحنا شيئا من الحياة الحقة، والموت الحق. لا نطلب منه السعادة ولا الطمأنينة، بل لحظة فقط، وفقط لحظة، لحظة من الحياة الممتلئة التي تنصهر فيها الأضداد، وتتصالح فيها الحياة والموت، والزمن والأبدية. ونعرف على نحو غامض، أن الحياة والموت ليسا حركتين متعارضتين، بل هما حركتان متكاملتان للواقع ذاته. وإن الخلق والهدم لينصهران في فعل الحب، إذ خلال جزء من الثانية يلمح الإنسان حالة أكثر اكتمالا. إن الحب في عالمنا تجربة يكاد يكون بلوغها متعذرا، ما دام كل شيء يقف ضدها: الأخلاق، والطبقات، والقوانين، والأعراق، والمحبون أنفسهم. لقد كانت المرأة دوما هي «آخر» الرجل، ونقيضه، ومكمله. وإذا كان جزء من كياننا يسعى إلى الانصهار فيها، فإن الجزء الآخر، وليس بقدر أقل إلحاحا، يبعدها ويقصيها. المرأة شيء ثمين وضار بالتناوب، لكنه مختلف على الدوام. وبتحويل المرأة إلى شيء، إلى موجود خاص، وإخضاعها الى كل التشوهات التي تمليها على الرجل مصالحه، وكبرياءه، وقلقه، وحبه لها، فإنه لا يلبث أن يحولها إلى أداة ووسيلة، للحصول على الاعتراف وعلى اللذة وعلى طريق ما للاستمرار في الحياة. إن المرأة وثن، وآلهة، وأم، وساحرة أو ربة فن، حسب «سيمون دي بوفوار»، لكنها لا تستطيع أبدا أن تكون هي نفسها. من هنا تكون علاقتنا الجنسية منحرفة من أصلها، ومشوهة في جذورها. يحصل بيننا وبين المرأة استيهام: الاستيهام الخاص بصورتها، والاستيهام المتعلق بالصورة التي نكونها عنها، والتي تتقمصها. لا نستطيع حتى لمسها كجسد يجهل ذاته، مادامت تتسلل بيننا وبينها هذه النظرة الخاضعة والذليلة لجسد يستسلم. يحصل للمرأة الشيء ذاته: إنها لا تشعر بذاتها، ولا تتصوره إلا باعتباره شيئاً، إلا باعتباره «آخراً». إنها لا تكون سيدة على ذاتها بالكل. إنها صورة تمليها عليها العائلة، والطبقة، والمدرسة، والصديقات، والدين، والعاشق. أنوثتها لا تعبر عن نفسها أبدا، لأنها تتجلى من خلال أشكال ابتكرها الرجل. ليس الحب فعلا طبيعيا. إن الحب شيء إنساني، وهو بالتعريف الشيء الأكثر إنسانية، أي إبداعاً، شيئاً صنعناه نحن، ولم تمنحه لنا الطبيعة، شيئاً قمنا به، ونقوم به كل يوم، ونقوضه كل يوم.

Category

Show more

Comments - 2